السبت، 16 مايو 2015
امباذقليس
أما إمباذقليس فهو
أحد الطبيعيين المتأخرين ، فبعد بارمنيدس أصبح شغل الفلاسفة الشاغل هو
محاولة التوفيق ، من جهة بين "
الثبات " الذي برهن على ضرورته
بارمنيدس و"الحركة " التي
يرَونَها في حياتهم اليومية ، وهي تلك الحركة التي إهتم بها هيراقليطس . ومن جهة أخرى
بين "الواحدية " التي أكد عليها مذهبه ، و "التعدد" الذي إهتم
به الفيثاغوريون ،والذي تشهد به التجربة ، وقد تعددت محاولات التوفيق ، ومنها خرجت
فلسفات إمباذقليس وأنكساجوراس والذريون ..
امتدت حياة إمباذقليس
فيما بين حوالي عام 492 قبل الميلاد ، فيكون قد لمع اسمه في منتصف القرن الخامس
تقريبا ، وكان قد ترك كتابين ، أحدهما
"في الطبيعة " والثاني "في التطهير " ، والكتاب الثاني يبين
تأثره بالفيثاغوريين وبأراءهم الدينية ، أما الأول فيوضح تأثره ببارمنيدس ، وإن
كان تأثره بهيراقليطس أبعد أثرا من
بارمنيدس . ونظريته حول المادة كانت من البساطة والإقناع بمكان جعل الجميع يؤمنون
بالعديد من جوانبها حتى عصر النهضة .
والحق أن تبني أرسطو لها قد ساعد كثيرا على انتشارها بعد إدخال عدة تعديلات عليها
، وفي ظل الدعم الأرسطي لها بقيت هي السائدة من بين أعمال التراث اليوناني القديم
حتى القرن الثامن عشر حتى خضعت لنقد بناء على يد علماء الكيمياء من أمثال
"بويل " . وتقوم هذه النظرية على أن جميع الأشياء تتكون من أربعة عناصر
_رغم أنه لم يكن هو الذي استخدم كلمة عنصر _ هي :التراب ، الهواء ، النار ، الماء
.وليس لأيها أفضلية على الأخر ، لكنها تتحدد بكميات مختلفة بالأشياء المختلفة .
يتفق إمباذقليس مع
بارمنيدس في فكرة عدم خلق الأشياء أو فنائها ، ولكنه صاغها بطريقة أفضل منه فقال :
" إن جميع الأشياء الهالكة لا تولد ولا تفنى بالموت ، بل بخلط الأشياء
وتبديلها ، والانسان هو من أطلق اسم الميلاد ". ويعتبر هذا حلا وسطا بين بارمنيدس والمنطق
السليم ، فامباذقليس على أتم إستعداد "للالتزام بالعرف " والحديث عن
الميلاد والموت ، فمادمنا نتحدث في إطار فكرته عن أن الميلاد أو النشوء هو عملية
تكوين شيء من خلال خلط المواد الموجودة سابقا ، وما الموت أو الفناء الا يعنى
عملية تفكيك هذه المواد أو العناصر وإعادة تكيونها لتصبح شيئا أخر . لذلك فهو متفق
مع بارمنيدس الى حد ما . ويتفق معه أيضا فى أنه ليس في الوجود مفهوم الفراغ أو
الخلاء ، بيد أنه تجاهل من مذهبه إستحالة الحركة أو أن ليس هناك إلا شيئا واحدا ،
والشىء نفسه فعله مع مفارقات زينون الداعمة لهذه الامور .ولا تشير العناصر الأربعة
لدى امباذقليس من تراب وهواء ونار وماء ، الى مانعنيه اليوم بهذه الكلمات ،
فالهواء تشكلت منه جميع الغازات ، والماء تشكل منه جميع السوائل وذلك لأنه يذوب
ويتحد مع عناصر أخرى ، والحب هو الذي يصل هذه العناصر ويجمعها ببعض ، والبغضاء هي الصراع التي تفصله وينفرها عن بعضها البعض ، وتضع هذه
الحرب أوزارها في صورة العالم المتغير الذي نراه .ويرَ إمباذقليس أن الحب ساد
العالم كله في وقت من الأوقات وإجتمعت كل العناصر في شكل إلهي واحد ، لكن شوكة
الصراع بدأت تقوى وأخذت تفرق بين هذه العناصر ، بيد أنه يوما ما ، سيكتب الإنتصار
"للصراع أو البغضاء " لكن ليس للأبد ، وتعود جميع الأشياء الى سيرتها
الأولى ذرات من عناصر ، ولكن الحب سيشنُ هجوما مضادا رهيبا ويجمع العناصر كلها في
شكل أخر ضخم لتبدأ المعركة بينهما من جديد . ويشبه الأمر الى حد ما في علم
الكونيات cosmolgy المعاصر ، حديثنا عن
عملية "الإنفجار الكبير big
bang"
و " الإنسحاق الكبير big
crunch"،
فما يقوله علماء اليوم أن المادة والطاقة كانتا مضغوطتين بشكل كلي في مكان واحد ثم
انفجرتا وتبعثرتا في "إنفجار عظيم " . وإذا كان الحال كذلك فلا مناص من
عملية عكسية في المستقبل البعيد تعرف بعملية "الانسحاق الشديد "ويلتص
بعضها في بعض فى نقطة واحدة بقوة الجاذبية ،وهذه الفكرة تعادل عند إمباذقليس فكرة
إنتصار الحب .لذلك يمكننا إعتبار تفسير الكون لديه خليطا من فيزياء ستيفن هوكينج
وروايات باربرا كارتلاند الرومانسية .
قدم إمباذقليس تفسيرات
أكثر تقدما بخصوص الكائنات الحية ، فمثلا لاحظ أن الصفات المتباينة بشكل واضح
للكائنات الحية يمكن أن تكون لها الوظيفة نفسها وأن تؤدي أعمالا متشابهة، وهذا هو
أحد المباديء الأساسية في علم الأحياء .أما أكثر تفسيراته البيولوجية تفصيلا عن
البقاء هو تفسيره لعمليات التنفس عند الإنسان والحيوان ، إذ يرَ أن انتظام حركة
التنفس يترتب على انتظام حركة الدم في ثقوب صغيرة موجودة في الأنابيب حاملة الدم
في مؤخرة فتحات الأنف ، وهذه الحركة تمتص الهواء لداخل الأنف . ثم يستفيض في شرح
هذا المبدأ الميكانيكي استفاضة تنم عن حذاقة ومهارة وذكاء . ثم اقترب إمباذقليس من
لب القضية الجوهرية في علم الأحياء ، حيث قال إن جميع المخلوقات تدين بالفضل فيما
تحمله من صفات مفيدة ونافعة الى حقيقة أنه كان ثمة العديد من أنواع المخلوقات ،
وأن الكائنات الغريبة والمشوهة فشلت في البقاء لأنها لم تكن لائقة لذلك ، ولم يتبق
سوى المخلوقات التى كانت جديرة بذلك لتتكيف وتملأ العالم بالتكاثر ، بيد أن
تفسيراته لهذه العلملية انطوت على تفسيرات أقرب الأساطير منها الى التفسير العلمي
فكتب يقول : كانت في هذه المرحلة العديد من الاوجه بلا رقاب ، وكانت الأذرع تهيم
بلا أكتاف ، وكانت العيون تضرب في الارض وحيدة بحثا عن جباة ..بيد أن هذا لا يمنعه
أن اكتشف شيئا من عمل الانتخاب الطبيعي قبل أن يقدم دارون ووالاس أدلة ملموسة على نظرية التطور
ب2300عام .
انتهي ..
المصادر:
1-تاريخ الفلسفة الغربية
..برتراند راسل ..
2-حلم
العقل ..تاريخ الفلسفة من عصر اليونان الى عصر النهضة ..انتوني جوتليب .
3-أقدم
لك الفلسفة ..ديف روبنسون..
5_
تاريخ الفلسفة اليونانية ..يوسف كرم..
عماد السعيد..
أناكسجوراس
كان أناكسجوراس
(حوالي500-428ق.م) هو أول من حمل الفلسفة الطبيعانية الأيونية الى الأثينيين ، ولد
في مدينة كلازوميني في أيونيا ، ثم انتقل الى مدينة أثينا حوالي عام 460 وغالبا
بدعوة من بركليز ، إذ كان معنيا بتمدين أبناء المدينة فكان يجلب اليها الأدباء
والعلماء ليجعل منها مركز اليونان في السياسة والثقافة على السواء ، فبدخول
أناكسجوراس الى أثينا دخلت معه الفلسفة اليها للمرة الأولى . وكان سقراط في ذلك
الحين لا يزال صبيا ولم يكن أفلاطون قد ولد بعد ، وقد تحمله سكان أثينا مايقرب من
ثلاثين عاما ، وأطلقوا عليه اسما لا يخلوا من تهكم إذ سموه "عقل "،
وسرعان من اتهموه بتهمة فرّ على أثرها نحو
المشرق ، وتمثلت جريمته المعلنة رسميا في أنه كان يعتقد بأن الأجرام السماوية ليست
ألهة تستحق العبادة ، بل أحجار ملتهبة ، فما الشمس إلا صخر ملتهب ، وما القمر إلا
من تراب . بيد أن هناك بعض المؤرخين يقدكشفون سببا أخر للإتهام فقالوا أن السبب
الحقيقي هو لمقاضاته هو صداقته للقائد العظيم بركليز وقربه منه ، ويبدو هذا
التفسير معقولا ، لأن هناك أصدقاء لبركليز أخرين قد طالتهم تلك الإتهامات .
ورد ذكر اسم أناكسجوراس في محاورة
أفلاطون عن محاكمة سقراط بتهمة
الفسق ، وذلك بعد ثلاثين عاما ، حيث توجه سقراط الى أحد مُتَّهميه وهو رجل يدعى
ميليتوس ، وسأله عما إذا كان الإتهام الموجه إليه هو :" أني لا أؤمن بأن
الشمس والقمر ألهة ، في حين أن معظم الناس يؤمنون بذلك " . فأكد ميليتوس
كلامه قائلا :" إنه فعلا لا يؤمن بذلك أيها السادة المحلفون ، فهو يقول إن
الشمس قطعة من الحجارة والقمر كتلة من التراب " فما كان م نسقراط إلا أن رد
عليه بسخرية وتهكم وقال له : عزيزي ميليتوس ! هل تتخيل أنك تحاكم أناكسجوراس ؟؟
ألهذا الحد تستهين بهؤلاء السادة حتى تظن
أنهم جهلاء فلا يعرفون أن كتابات أناكسجوراس مفعمة بنظريات مثل هذه ؟؟.
كان أناكسجوراس مهتما بالفلك اهتماما بالغا ولكن بصبغة أيونية ، وقد قيل أنه تنبأ
بسقوط نيزك ، وسقط فعلا على مدينة إيجوسبوتامي في تراقيا عام 467ق.م ، ورغم بعد
هذه القصة عن المنطق الا أنها ربما قد تكون قد أكدت فكرة أناكسجوراس عن ماهية
النجوم . وكان أناكسجوراس معارضا للخرافات بشتى أشكالها وليست الخرافات المتعلقة
بالنجوم فحسب ، فقد روى بلوتارخ في كتابه "حياة بركليز " قصة إحضار رأس
خروف بقرن واحد إلى بركليز وكان به نتوء في
منتصف رأسه ، فادعى أحد العرافين ويدعى لامبون أن وجود مثل هذا الشيء الغريب على أرض بركليز
يعني أن بركليز سيصبح قائد أثينا ( وهو ما حدث بالفعل ) ، بيد أن أناكسجوراس أمر
بتشريح رأس الخروف ، وأوضح أن قرن الخروف الوحيد
نما على تلك الشاكلة ،لان مخ الخروف كان مشوها . وكان يعزو بلوتارخ
أيضا جُل ووقار بركليز روح الدعابة التي يتمتع بها لتعرضه لفلسفة
أناكسجوراس ، فهي سبب مهارة بركليز في الجدل والبلاغة . ومن نافلة القول أن نقول
هنا أنه رغم عظمة ما خلفته رؤية
أناكسجوراس للعالم وما خلفته على
بركليز ، لم يكن سقراط ليأخذها كاملة عنه
، فقد رأى أنها علمية ضيقة الأفق تهتم كثيرا بالأسباب الميكانيكية للأشياء وتهمل
معناها وغرضها . ومن هنا ، من رفض سقراط لرؤية
أناكسجوراس ، كان ذلك الأمر بمثابة نقطة التحول الكبرى في تاريخ الفلسفة ،
ويقال أحيانا إنه بيت القصيد الذي تحول فيه الموضوع من دراسة تأملية في الطبيعة
الى دراسة معنوية جادة للإنسان ، وهذا هو ما قاله شيشرون بعد قرابة ثلاثة قرون :
"منذ قديم الازل
وحتى عهد سقراط ، تناولت الفلسفة الحركات والأرقام ، وتسألت عن الأشياء من أين
أتت وهل عادت أم لا ، كما بحثت الفلسفة
بشغف في حجم النجوم والمسافات التي تفصلها ومساراتها وكل المظاهر السماوية الأخرى
. أما سقراط فهو أول من أتى بالفلسفة من السماء ووضعها في مياديين الإنسان
...وأكرهها على طرح أسئلة عن الحياة والأخلاقيات والخير والشر ". وفي هذا
الحديث بعض الصحة وليس كله صحيحا ، إذ إن كثيرا من الفلاسفة قبل سقراط
كالفيثاغوريين وهيراقليطس طرحوا أسئلة حول
الحياة والأخلاقيات والخير والشر ..
نشأ تفسير أناكسجوراس للطبيعة في ظل فكر بارمنيدس ، شأنه في ذلك شأن الذريين من
بعده ، فكان لازما عليه أن يجد سبيلا لإعادة ترتيب العالم المتغير الذي هاجمه
بارمنيدس . ولقد انطلق أناكسجوراس من النقطة نفسها التى انطلق منها إمباذقليس ،
لكنه إنتهى في نقطة مخالفة تماما ، فإذا كان إمباذقليس قد ضاعف " الحقيقة
الواحدة " السرمدية غير القابلة للإنهيار ، فإن أناكسجوراس كان يطمح الى مضاعفة
ماوراء الطبيعة بطموح اكبر من ذلك ، فقال إن كل المواد خالدة وغير مخلوقة
وغير قابلة للإنهيار . ويمكننا تبين هذه الفكرة عنده إذا ما نظرنا الى التساؤل
الغريب الذي اعتراه : كيف للشّعر أن ينشأ من غير الشّعر ؟؟ . فهنا تتمثل فكرة
أناكسجوراس الجوهرية في أن كل مادة تحتوي على كميات صغيرة من المواد الأخرى ،
وتقدم هذه الفكرة حلا لمشكلة تحول الشيء الى شيء أخر ، إذ أنها تقول أن المادة الجديدة كانت موجودة في المادة القديمة
طوال الوقت . وقد ذهب أناكسجوراس الى أن كل شيء قابل للإنقسام الى مالا نهاية ،
وأن أصغر أجزاء المادة لا يخلو من أثار لشتى العناصر جميعا ، وإنما تبدو الأشياء
على ماهي تبعا للعنصر الغالب عليها ..
ويختلف أناكسجوراس عن أسلافه في إعتباره العقل "ناوس" عنصرا أصيلا يدخل
في تركيب الكائنات الحية كلها ، وقد قال
في ذلك : " هناك بعض الأشياء _ويقصد
بها الكائنات الحية _ لديها عقل كذلك " ، والفارق الوحيد بين الكائنات الحية
وغير الحية ، هو أن الكائنات الحية تستطيع أن تحرك نفسها بنفسها ، ومن ذلك يُفترض أن أناكسجوراس استنتج
أن العقل هو الذي يمكنها من ذلك ف"لربما تتمتع النباتات بعقول بدائية تمكنها
من النمو " . فالعقل هو مصدر الحركة كلها ، فهو يسبب حركة دائرية تنتشر في
أرجاء الكون كله ، وتجعل اخف الأشياء تنزاح الى الحافة ن وأثقلها يهوي تجاه المركز
، والعقل متجانس .
ومن نافلة القول قبل أن نتحدث عن صورة أناكسجوراس في العالم الاسلامي أن نقول ، أن
من ضمن الأشياء التي تفكر فيها الطقس وبعض جوانب من علم الأحياء والإدراك ،
بالإضافة الى الكون وعلم الفلك . ويبدو
أنه أدرك أن القمر يأتي بضوئه من الشمس ، وأن ظل الارض هو المتسبب في خسوف القمر .
صورة أناكسجوراس لدى العالم الإسلامي :
ظهر اسم أناكسجوراس لدى مؤرخي الفكر اليوناني من المسلمين برسمه كما نعرفه ،
فيذكره القفطي تحت اسم "انكساغوراس " ورى أنه حكيم مشهور مذكور ، وأنه
قبل أرسطو . ثم يخطيء فيقول إنه كان معاصرا لأرسطو . كذلك المبشر بن فاتك يدعوه
"أنكساغوراس " ويذكره في مواضع معينة من كتابه ، ثم ينقل بعض أقواله
:" قال أنكساغوراس : كما أن الموت رديء لمن الحياة له جيدة ، كذلك جيد لمن
الحياة له رديئة ، فليس ينبغي ان يقال إن الموت جيد ولا رديء ، لكنه بالإضافة الي
الشيء يكون جيدا أو رديئا " . وعرف في العالم الاسلامي أيضا غشارته " أن
كل شيء يكون في كل شيء " و " أن الشيء لا يكون الا من
مثله وشبيهه في الصورة ..
أما الشهرستاني فيذكر أن
انكساغوراس يقول : إن أصل الأشياء جسم واحد ، موضوع الكل لا نهاية له ، ومنه يخرج
جميع الأجسام والقوى الجسمانية والأنواع والأصناف "..ويذهب الشهرستاني أيضا
الى أن أنكساغوراس أول من قال بالكمون والظهور ، فقد اعتبر الأشياء كلها كامنة في
الجسم الأول .
وقد ذهبت مجموعة من مؤرخي الفلسف ةالاسلامية من الأقدمين أيضا من أمثال
الشيرازي في "الأسفار الأربعة "
، وفخر الدين الرازي في "المباحث الشرقية" ، والايجي في "المواقف " ، كلهم ذهب الى أن نظرية أنكساغوراس في الكون
أثرت في نظرية الكمون عند "النّظام " المعتزلي ، فقد ذهب النّظام الى أن
في الجسم أجزاء لا نهاية لها بالفعل ، وهو بعينه نظرية أنكساغوراس في الكمون .
ويرى الأستاذ الدكتور أبو ريده ، أن ما ذهب اليه النّظام من أن العالم مكون من
جواهر متضادة لا عدد لأجزائها يقهرها الله على ما يريد ، أشبه برأي أنكساغوراس في
أن العقل هو الذي يرتب وينظم كل شيء . ويذهب أيضا "هورتن " الى أن
"النّظام " انكساغورسي النزعة أكثر منه رواقي في نظريته عن الكمون ..
انتهى ..
المصادر :
1-تاريخ الفلسفة الغربية
..برتراند راسل ..
2-حلم
العقل ..تاريخ الفلسفة من عصر اليونان الى عصر النهضة ..انتوني جوتليب .
3-أقدم
لك الفلسفة ..ديف روبنسون..
4_قصة الفلسفة اليونانية ..زكي نجيب محمود ..
5_
تاريخ الفلسفة اليونانية ..يوسف كرم..
6_ أطلس الفلسفة ..بيتر كونزمان ،فرانز بيتر بوركارد،فرانز فيدمان ، اكسل فايس..
7_نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام ..علي سامى النشار
8_الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون ..د/عزت قرني ..
عماد السعيد..
هيراقليطس والعالم المتدفق
ترجع الصورة الرائجة بين للناس للفيلسوف على أنه معلم شارد الذهن الى عهد طاليس . بيد أن هراقليطس حوالى
(540-480ق م) قد جاء ليعرض جانبا أخر
من الصورة التقليدية الساخرة عن الفيلسوف ألا وهو جانب الغموض ، فقد
كانت شهرته عند الاغريق بأنه
"المظلم" و "الغامض" و "الحزين " .. وقد استحق
بجدارة لقب "صانع الحجج" ، وعندما سأل يوريبيديس سقراط عن رأيه في كتابات هراقليطس فأجاب بقوله :
" ما أروع الجزء الذي أفهمه ، وما أروع الجزء الذي لم أفهمه أيضا ، ولكنه
يحتاج الى غواص ماهر كي ينفذ الى أعمق معانيه ". وليست هذه محض مزحة بسيطة من
سقراط ، فهاكم ثمة مثالان يوضحان أقوال
هراقليطس المستعصية على الفهم نعرضهما على النحو التالي :
"الموت هو كل ما يتراءى لنا في
يقظتنا ، بينما ما نراه خلال نومنا فهو
النوم ."
"ان الحياة تشبه طفلا يلعب ، ويحرك
دماه أثناه لعبه . والملَكيّة تنتمي الى
الطفل .". كانت جُل أقوال هراقليطس مربطة ومحيرة على هذه المنوال ، لدرجة
جعلت من أحد المعلقين على بعض أجزاءه التي جاءت خالية من الغموض ولا لبس فيها ، من
مجموع المائة والثلاثين التي قُدر لها البقاء فكتب يقول : "ان خلو هذا النص
من أي شكل من أشكال الابهام يلقي بظلال الشك على مدى صحته " . لكن لا يعني
هذا أن هيراقليطس كان يتعمد أن يحيك ألغازا لا معنى لها ولا هدف من وراءها ، فجل
كتاباته لا تسبب الضيق أو التبرم منها بقدر ما تصيب القاريء بشىء من الاثارة
والتشوق . كما أن هناك ثمة مغزى وهدفا من وراء اسلوبه الغامض اذ كتب يقول :"
ان الطبيعة تُؤثر الخفاء وتحبه ".
ثم اذا ما نظرت الى سمات هراقليطس الشخصية ، تستكشف من الشذرات الباقية من كتابه
" الطبيعة " ، لا تملك الا أن
تلاحظ احتقاره للعامة أو للمجموع بصفة عامة ، وقد يكون سبب هذا سياسيا ، فهو ينتمي
للارستقراطية ، فهو اذن ضد حكم عامة الشعب
أو النظام الديمقراطي ، ، فهنالك نص واضح يقول فيه : " يحسن باهل أفيسوس أن
يشنقوا أنفسهم وكل رجل بالغ منهم ، وان يتنازلوا عن مدينهم للفتيان ، لأنهم نفوا
هرمودورس أفضل رجال المدينة قائلين : لن نستبقي أحدا من الفضلاء ، فان وجد فليذهب
الى بلد أخر وبين أخرين ".ومن جهة اخرى كان محتكرا أيضا لبعض المفكرين
والشعراء ان لم يكن كلهم ، ولم يستثني منهم الا واحدا " وهوميروس لابد أن
يحذف من القائمة ليضرب بالسياط " و " لم أجد واحدا بيم كل من سمعتُ
أحاديثهم ، استطاع أن يفهم أن الحكمة لم يبلغها أحد " و " ان تعلم أشياء
كثيرة لا يُعلم الفهم ، والا لتعلم الفهم هزيود وفيثاغورس واكنوفان وهيكانيوس
" " ان فيثاغورس قد زعم لنفسه حكمة لم تكن سوى معرفة أشياء كثيرة وفن
ايقاع الاذى " أما الاستثناء الوحيد الذي أفلت من هجومه فهو
"تيوتاموس" الذي أفرده دون
الاخرين بقوله عنه " انه يرجحُ بفضله فضل الباقين جميعا " ، فاذا أردنا
ان نعرف سبب هذا الثناء ، وجدنا ان "تيوتاموس" قد قال : " ان معظم
الناس أشرار ..
لم يكن هيراقليطس كأيّ من سابقيه ، فالاهتمامات التي شغلته والمواقف التي تبناها
جعلته بمنأى عن أهل ملطية وأتباع فيثاغورس ، فعلى عكس فيثاغورس ، لم ينشىء
هيراقليطس مدرسة من أي نوع طيلة فترة حياته ، بل انه لم يتبع أيّا من المدارس التي
كانت قائمة أنذاك . و على الرغم من قربه من موطن علماء الطبيعة الاوائل ، كانت
دوافع هراقليطس تختلف عن دوافع طاليس وانكسمندر وانكسيمانيس ،ويبدو أنه لم يؤمن
بما قاله الملطيون عن أن الكون قد نشأ كله من مادة واحدة وخلق في لحظة واحدة ، بل
كان يؤمن بأزلية وجود الكون ، فاتخذ موقفا
مغايرا للنظرية السائدة ، فعنده أن الصيرورة والتغير الدائمين من أوليات نظامه ،
ولهما تخضع الاشياء جميعا . وقد عُرف عنه قوله :
"لا نستطيع أن نستحم فى النهر الواحد مرتين ،لان كل شىء يتحول ولا شىء يبقى
"
"ان الاشياء جميعها تنشأ بفعل الصراع بينها " ، وهذا يعني أن خلف حالة
الانسجام والتناغم التي تظهر عليها الاشياء يتغير كل شىء بشكل مستمر ولا يثبت على
حال أبدا ،اذ توجد حالة من الصراع بين الاضداد وحرب ضروس تدور بينها جميعا ، الا
أن هذه الأضداد هي الشيء نفسه في ذات الوقت فكان يقول :"ان الاشياء كلها
واحدة ".فالعالم اذن بتصوره عبارة
تبادل وصراع الاضداد ف "البرودة تصبح حرارة ، والحرارة بردا ،والرطوبة جفافا
، والجفاف رطوبة ".ولا يمكن تصور
الشيء دون نقيضه :الحياة والموت ، اليقظة والنوم ، النهار والليل .ومن تبادل
الأضداد تكون الصيرورة ، وبهذا المعنى يكون الاختلاف أو "الحرب " صراعا مستمرا بين الأضداد وهو بمثابة الاب لكل الأشياء .
بيدّ أن هراقليطس قد جعل عنصرا فوق كل العناصر الاخرى ، فقد جعل من "النار
الكونية " هى الدور المحوري في قصة الصراع هذه ، فالكون عنده "نار أبدية
لا تنطفىء ، بل تشتعل بمقدار وتخبو بمقدار" فهراقليطس اذن كان يقول
بنظرية التغير الدوري للكون والتي تقول ان كل شىء يتغير ويتحول بصفة دورية
الى نار في سلسلة متعاقبة من الحرائق
الكونية .ومع ذلك فان هراقليطس يعتقد بان كل شيء سيكون خاضعا لما يسميه
"باللوغوس" ، وهو بمثابة النظام فى سيرورة التحول ،ولا مجال للتعرف عليه
الا بالحكمة .و"اللوغوس" هو المشرع _حتى بالمعنى الاخلاقي للكلمة _ لكل
الامور المشتركة ، بل هو الذي يؤمن وحدة الاضداد ، ف" الكل يصير واحدا ،
والواحد يصير كلا ".
يمكن اعتبار هراقليطس من
خلال أفكاره حول وحدة الأضداد من أوائل المفكرين الجدليين . وفي الوقت نفسه تشكل
نظريته في اعتبار اللوغوس معيارا حجر الأساس في نظرية الحق الطبيعي . وميز
هراقليطس ايضا بين الحسيات والعقليات ، والحكمة الحق لا يمكن بلوغها الا بطريق
التفكير وبالتوافق مع اللوغوس والعقل الكلي ،
" يطيب للطبيعة أن تحتجب ،ومعظم الناس لا يتفكرون في مثل هذه الاشياء التي
يقعون عليها يوميا ، فهم يفهمون ما يقعون عليه بالخبرة ، هكذا تبدوا لهم الامور
".
صورة هراقليطس في العالم
الاسلامي :
كيف وصلت أراء هراقليطس الى العالم الاسلامي وعلى أى صورة وصلت ؟
وهل كان لها تأثير نافذ في فكرهم وفلسفتهم؟
يقول الدكتور على سامي النشار : قدم كتاب الطبيعة لارسطو صورة متكاملة عن فلسفة هيراقليطس ، وقدم لهم ما ظنه أرسطو
موكز الدائرة في هذه الفلسفة وهو :أصل الوجود هو النار ، وأن الوجود جسمي ، بل
يورد أرسطو قول "ايراقليطس " وهكذا كتب الاسم عند المسلمين : ان الاشياء
كلها تصير في وقت من الاوقات نارا. كما قدم لهم مذهبه "ان كل شىء قد يتغير من
الضد الى الضد " .كما أن كتاب أرسطو "السماء" ينقل الى المسلمين
فكرة الدور ، فالكون والفساد عند هرقليطس يتناوبان السماء "ومنهم من قال انها
تفسد احيانا ، وتكون حينا ، وأنها دائمة على هذه الجهة ، لا نفاذ منها ولا انقطاع
.."
ولكن ما لبثت صورة هرقليطس أن اتضحت عند المسلمين خلال كتاب "الاراء الطبيعية
"لفوطرخس .بل يذكر فلوطرخس الفيلسوف هباسوس يقول : " واما ايرقليطس
وأباسس –هباسوس_ الذي ينسب الى مطابنطيس ، فذكرا أن مبدأ الاشياء كلها من نار ، وانتهاءها الى النار ، واذا انطفئت
النار تشكل بها العالم ..."
وعرف المسلمون هراقليطس عن طريق اثولوجيا المشهور .فاثولوجيا يذكر ان هراقليطس أمر
بالطلب والبحث عن جوهر النفس ، والحرص على الصعود الى العالم الشريف الاعلى ، وقال
:" ان من حرص على ذلك وارتقى الى العالم الاعلى جُوزي بأحسن الجزاء اضطرارا
.." . وقد تناولت المصادر الاسلامية صورة واضحة لهراقليطس في المصادر
اليونانية المترجمة في العالم الاسلامي ، وممن تناول هذه الصورة المقدسي ، وعرفه الشهرستاني وعرض صورته ب"أن مبدأ
الموجودات هو النار ، فما تكاثف منها وتحجر فهو الارض ، وما تحلل من الارض بالنار
صار ماء ، وما تحلل من الماء بالنار صار هواء ،فالنار مبدأ ، وبعدها الارض ،
وبعدها الهواء ، وبعدها النار ، والنار هي
المبدأ ، واليها المنتهى ، فمنها الكون واليها الفساد "..
أما المبشر بن فاتك فيذكره تحت اسم "يراقليطوس الظلمي" نسبة الى الظلمة
، وقد سمى هراقليطس فعلا بهراقليطس المظلم كما عرفنا ، وذلك لصعوبة اسلوبه وعدم
وضوحه ، فكان مظلم الاسلوب . وعرف المسلمون
أثره الكبير على أفلاطون ، وأن أفلاطون كان يعتنق أراء مردسة التغير قبل أن
يصحب سقراط . ويقول "القفطي"
وهو يتكلم عن دراسة أفلاطون " أراد الفلسفة فمشى الى أصحاب أراقليطوس وكانت
لهم طريقة في الفلسفة ، وهى اليوم مجهولة فسمع منهم وتحقق أن طريقتهم فى الحكمة
يتعين عليها الرد ، وأراد أن يجاهد نفسه في طلب الفلسفة فقصد سقراط .ثم يقول
المبشر بن فاتك :"ان أفلاطون كان يتبع ايراقليطوس في الاشياء المحسوسة ، كما
كان يتبع فيثاغورس في الأشياء المعقولة ، وكان يتبع سقراط في أمور التدبير..
ومن جهة اخرى فقد أثرت
فكرة التغير عنده فى اخوان الصفا ، وقد اخذت فكرة الدور التام أو السنة الكبرى
صورا متعددة لدى الطوائف الباطنية ، بيد
انها ظهرت لدى اخوان الصفا فى أوضح صورة ،ففكرة الكور عند اخوان الصفا :"ان
للفلك وأشخاصه ...أدوارا كثيرة . ولادوارها أكوار ..اما ألاكوار فهي استئنافها في
ادوارها وعودتها الى موضعها مرة أخرى ..بل ان النوبتخي يعتبر فكرة التغير فكرة
سوفسطائية وقد اتهم هراقليطس بانه أب للشك والسفسطة ..
المصادر :
1-تاريخ الفلسفة الغربية
..برتراند راسل ..
2-حلم
العقل ..تاريخ الفلسفة من عصر اليونان الى عصر النهضة ..انتوني جوتليب .
3-أقدم
لك الفلسفة ..ديف روبنسون..
4_قصة الفلسفة اليونانية ..زكي نجيب محمود ..
5_
تاريخ الفلسفة اليونانية ..يوسف كرم..
6_ أطلس الفلسفة ..بيتر كونزمان ،فرانز بيتر بوركارد،فرانز فيدمان ، اكسل فايس..
7_نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام ..علي سامى النشار
8_الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون ..د/عزت قرني ..
عماد السعيد..
الاشتراك في:
التعليقات (Atom)