السبت، 16 مايو 2015

هيراقليطس والعالم المتدفق


ترجع الصورة الرائجة بين للناس للفيلسوف على أنه معلم شارد الذهن  الى عهد طاليس . بيد أن هراقليطس حوالى (540-480ق م) قد جاء ليعرض جانبا أخر  من  الصورة التقليدية  الساخرة عن الفيلسوف ألا وهو جانب الغموض ، فقد كانت شهرته  عند الاغريق بأنه "المظلم" و "الغامض" و "الحزين " .. وقد استحق بجدارة لقب "صانع الحجج" ، وعندما سأل يوريبيديس سقراط  عن رأيه في كتابات هراقليطس فأجاب بقوله : " ما أروع الجزء الذي أفهمه ، وما أروع الجزء الذي لم أفهمه أيضا ، ولكنه يحتاج الى غواص ماهر كي ينفذ الى أعمق معانيه ". وليست هذه محض مزحة بسيطة من سقراط  ، فهاكم ثمة مثالان يوضحان أقوال هراقليطس المستعصية على الفهم نعرضهما على النحو التالي :

"الموت  هو كل ما يتراءى لنا في يقظتنا ، بينما ما نراه  خلال نومنا فهو النوم ."
"ان الحياة تشبه طفلا يلعب  ، ويحرك دماه  أثناه لعبه . والملَكيّة تنتمي الى الطفل .". كانت جُل أقوال هراقليطس مربطة ومحيرة على هذه المنوال ، لدرجة جعلت من أحد المعلقين على بعض أجزاءه التي جاءت خالية من الغموض ولا لبس فيها ، من مجموع المائة والثلاثين التي قُدر لها البقاء فكتب يقول : "ان خلو هذا النص من أي شكل من أشكال الابهام يلقي بظلال الشك على مدى صحته " . لكن لا يعني هذا أن هيراقليطس كان يتعمد أن يحيك ألغازا لا معنى لها ولا هدف من وراءها ، فجل كتاباته لا تسبب الضيق أو التبرم منها بقدر ما تصيب القاريء بشىء من الاثارة والتشوق . كما أن هناك ثمة مغزى وهدفا من وراء اسلوبه الغامض اذ كتب يقول :" ان الطبيعة تُؤثر الخفاء وتحبه ".

ثم اذا ما نظرت الى سمات هراقليطس الشخصية ، تستكشف من الشذرات الباقية من كتابه " الطبيعة  " ، لا تملك الا أن تلاحظ احتقاره للعامة أو للمجموع بصفة عامة ، وقد يكون سبب هذا سياسيا ، فهو ينتمي للارستقراطية ، فهو اذن ضد حكم  عامة الشعب أو النظام الديمقراطي ، ، فهنالك نص واضح يقول فيه : " يحسن باهل أفيسوس أن يشنقوا أنفسهم وكل رجل بالغ منهم ، وان يتنازلوا عن مدينهم للفتيان ، لأنهم نفوا هرمودورس أفضل رجال المدينة قائلين : لن نستبقي أحدا من الفضلاء ، فان وجد فليذهب الى بلد أخر وبين أخرين ".ومن جهة اخرى كان محتكرا أيضا لبعض المفكرين والشعراء ان لم يكن كلهم ، ولم يستثني منهم الا واحدا " وهوميروس لابد أن يحذف من القائمة ليضرب بالسياط " و " لم أجد واحدا بيم كل من سمعتُ أحاديثهم ، استطاع أن يفهم  أن الحكمة  لم يبلغها أحد " و " ان تعلم أشياء كثيرة لا يُعلم الفهم ، والا لتعلم الفهم هزيود وفيثاغورس واكنوفان وهيكانيوس " " ان فيثاغورس قد زعم لنفسه حكمة لم تكن سوى معرفة أشياء كثيرة وفن ايقاع الاذى " أما الاستثناء الوحيد الذي أفلت من هجومه فهو "تيوتاموس" الذي أفرده  دون الاخرين بقوله عنه " انه يرجحُ بفضله فضل الباقين جميعا " ، فاذا أردنا ان نعرف سبب هذا الثناء ، وجدنا ان "تيوتاموس" قد قال : " ان معظم الناس أشرار ..
لم يكن هيراقليطس كأيّ من سابقيه ، فالاهتمامات التي شغلته والمواقف التي تبناها جعلته بمنأى عن أهل ملطية وأتباع فيثاغورس ، فعلى عكس فيثاغورس ، لم ينشىء هيراقليطس مدرسة من أي نوع طيلة فترة حياته ، بل انه لم يتبع أيّا من المدارس التي كانت قائمة أنذاك . و على الرغم من قربه من موطن علماء الطبيعة الاوائل ، كانت دوافع هراقليطس تختلف عن دوافع طاليس وانكسمندر وانكسيمانيس ،ويبدو أنه لم يؤمن بما قاله الملطيون عن أن الكون قد نشأ كله من مادة واحدة وخلق في لحظة واحدة ، بل كان يؤمن بأزلية وجود  الكون ، فاتخذ موقفا مغايرا للنظرية السائدة ، فعنده أن الصيرورة والتغير الدائمين من أوليات نظامه ، ولهما تخضع الاشياء جميعا . وقد عُرف عنه قوله :

"لا نستطيع أن نستحم فى النهر الواحد مرتين ،لان كل شىء يتحول ولا شىء يبقى "

"ان الاشياء جميعها تنشأ بفعل الصراع بينها " ، وهذا يعني أن خلف حالة الانسجام والتناغم التي تظهر عليها الاشياء يتغير كل شىء بشكل مستمر ولا يثبت على حال أبدا ،اذ توجد حالة من الصراع بين الاضداد وحرب ضروس تدور بينها جميعا ، الا أن هذه الأضداد هي الشيء نفسه في ذات الوقت فكان يقول :"ان الاشياء كلها واحدة ".فالعالم اذن  بتصوره عبارة تبادل وصراع الاضداد ف "البرودة تصبح حرارة ، والحرارة بردا ،والرطوبة جفافا ، والجفاف  رطوبة ".ولا يمكن تصور الشيء دون نقيضه :الحياة والموت ، اليقظة والنوم ، النهار والليل .ومن تبادل الأضداد تكون الصيرورة ، وبهذا المعنى يكون الاختلاف أو "الحرب "  صراعا مستمرا بين الأضداد وهو بمثابة  الاب لكل الأشياء .



بيدّ أن هراقليطس قد جعل عنصرا فوق كل العناصر الاخرى ، فقد جعل من "النار الكونية " هى الدور المحوري في قصة الصراع هذه ، فالكون عنده "نار أبدية لا تنطفىء ، بل تشتعل بمقدار وتخبو بمقدار" فهراقليطس اذن كان يقول بنظرية  التغير الدوري للكون  والتي تقول ان كل شىء يتغير ويتحول بصفة دورية الى نار  في سلسلة متعاقبة من الحرائق الكونية .ومع ذلك فان هراقليطس يعتقد بان كل شيء سيكون خاضعا لما يسميه "باللوغوس" ، وهو بمثابة النظام فى سيرورة التحول ،ولا مجال للتعرف عليه الا بالحكمة .و"اللوغوس" هو المشرع _حتى بالمعنى الاخلاقي للكلمة _ لكل الامور المشتركة ، بل هو الذي يؤمن وحدة الاضداد ، ف" الكل يصير واحدا ، والواحد يصير كلا ".

يمكن اعتبار هراقليطس من خلال أفكاره حول وحدة الأضداد من أوائل المفكرين الجدليين . وفي الوقت نفسه تشكل نظريته في اعتبار اللوغوس معيارا حجر الأساس في نظرية الحق الطبيعي . وميز هراقليطس ايضا بين الحسيات والعقليات ، والحكمة الحق لا يمكن بلوغها الا بطريق التفكير وبالتوافق مع اللوغوس والعقل الكلي ،

" يطيب للطبيعة أن تحتجب ،ومعظم الناس لا يتفكرون في مثل هذه الاشياء التي يقعون عليها يوميا ، فهم يفهمون ما يقعون عليه بالخبرة ، هكذا تبدوا لهم الامور ".

صورة هراقليطس في العالم الاسلامي :

كيف وصلت أراء هراقليطس الى العالم الاسلامي وعلى أى صورة وصلت ؟
وهل كان لها تأثير نافذ في فكرهم وفلسفتهم؟
يقول الدكتور على سامي النشار : قدم كتاب الطبيعة لارسطو صورة متكاملة  عن فلسفة هيراقليطس ، وقدم لهم ما ظنه أرسطو موكز الدائرة في هذه الفلسفة وهو :أصل الوجود هو النار ، وأن الوجود جسمي ، بل يورد أرسطو قول "ايراقليطس " وهكذا كتب الاسم عند المسلمين : ان الاشياء كلها تصير في وقت من الاوقات نارا. كما قدم لهم مذهبه "ان كل شىء قد يتغير من الضد الى الضد " .كما أن كتاب أرسطو "السماء" ينقل الى المسلمين فكرة الدور ، فالكون والفساد عند هرقليطس يتناوبان السماء "ومنهم من قال انها تفسد احيانا ، وتكون حينا ، وأنها دائمة على هذه الجهة ، لا نفاذ منها ولا انقطاع .."
ولكن ما لبثت صورة هرقليطس أن اتضحت عند المسلمين خلال كتاب "الاراء الطبيعية "لفوطرخس .بل يذكر فلوطرخس الفيلسوف هباسوس يقول : " واما ايرقليطس وأباسس –هباسوس_ الذي ينسب الى مطابنطيس ، فذكرا أن مبدأ الاشياء كلها  من نار ، وانتهاءها الى النار ، واذا انطفئت النار تشكل بها العالم ..."

وعرف المسلمون هراقليطس عن طريق اثولوجيا المشهور .فاثولوجيا يذكر ان هراقليطس أمر بالطلب والبحث عن جوهر النفس ، والحرص على الصعود الى العالم الشريف الاعلى ، وقال :" ان من حرص على ذلك وارتقى الى العالم الاعلى جُوزي بأحسن الجزاء اضطرارا .." . وقد تناولت المصادر الاسلامية صورة واضحة لهراقليطس في المصادر اليونانية المترجمة في العالم الاسلامي ، وممن تناول هذه الصورة المقدسي  ، وعرفه الشهرستاني وعرض صورته ب"أن مبدأ الموجودات هو النار ، فما تكاثف منها وتحجر فهو الارض ، وما تحلل من الارض بالنار صار ماء ، وما تحلل من الماء بالنار صار هواء ،فالنار مبدأ ، وبعدها الارض ، وبعدها الهواء ،  وبعدها النار ، والنار هي المبدأ ، واليها المنتهى ، فمنها الكون واليها الفساد "..

أما المبشر بن فاتك فيذكره تحت اسم "يراقليطوس الظلمي" نسبة الى الظلمة ، وقد سمى هراقليطس فعلا بهراقليطس المظلم كما عرفنا ، وذلك لصعوبة اسلوبه وعدم وضوحه ، فكان مظلم الاسلوب . وعرف المسلمون  أثره الكبير على أفلاطون ، وأن أفلاطون كان يعتنق أراء مردسة التغير قبل أن يصحب سقراط . ويقول  "القفطي" وهو يتكلم عن دراسة أفلاطون " أراد الفلسفة فمشى الى أصحاب أراقليطوس وكانت لهم طريقة في الفلسفة ، وهى اليوم مجهولة فسمع منهم وتحقق أن طريقتهم فى الحكمة يتعين عليها الرد ، وأراد أن يجاهد نفسه في طلب الفلسفة فقصد سقراط .ثم يقول المبشر بن فاتك :"ان أفلاطون كان يتبع ايراقليطوس في الاشياء المحسوسة ، كما كان يتبع فيثاغورس في الأشياء المعقولة ، وكان يتبع سقراط في أمور التدبير..


ومن جهة اخرى فقد أثرت فكرة التغير عنده فى اخوان الصفا ، وقد اخذت فكرة الدور التام أو السنة الكبرى صورا متعددة لدى الطوائف الباطنية  ، بيد انها ظهرت لدى اخوان الصفا فى أوضح صورة ،ففكرة الكور عند اخوان الصفا :"ان للفلك وأشخاصه ...أدوارا كثيرة . ولادوارها أكوار ..اما ألاكوار فهي استئنافها في ادوارها وعودتها الى موضعها مرة أخرى ..بل ان النوبتخي يعتبر فكرة التغير فكرة سوفسطائية وقد اتهم هراقليطس بانه أب للشك والسفسطة ..

المصادر :



1-تاريخ الفلسفة الغربية ..برتراند راسل ..

2-حلم العقل ..تاريخ الفلسفة من عصر اليونان الى عصر النهضة ..انتوني جوتليب .

3-أقدم لك الفلسفة ..ديف روبنسون..
4_قصة الفلسفة اليونانية ..زكي نجيب محمود ..

5_ تاريخ الفلسفة اليونانية ..يوسف كرم..
6_ أطلس الفلسفة ..بيتر كونزمان ،فرانز بيتر بوركارد،فرانز فيدمان ، اكسل فايس..
7_نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام ..علي سامى النشار
8_الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون ..د/عزت قرني ..

عماد السعيد..



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق