السبت، 16 مايو 2015
امباذقليس
أما إمباذقليس فهو
أحد الطبيعيين المتأخرين ، فبعد بارمنيدس أصبح شغل الفلاسفة الشاغل هو
محاولة التوفيق ، من جهة بين "
الثبات " الذي برهن على ضرورته
بارمنيدس و"الحركة " التي
يرَونَها في حياتهم اليومية ، وهي تلك الحركة التي إهتم بها هيراقليطس . ومن جهة أخرى
بين "الواحدية " التي أكد عليها مذهبه ، و "التعدد" الذي إهتم
به الفيثاغوريون ،والذي تشهد به التجربة ، وقد تعددت محاولات التوفيق ، ومنها خرجت
فلسفات إمباذقليس وأنكساجوراس والذريون ..
امتدت حياة إمباذقليس
فيما بين حوالي عام 492 قبل الميلاد ، فيكون قد لمع اسمه في منتصف القرن الخامس
تقريبا ، وكان قد ترك كتابين ، أحدهما
"في الطبيعة " والثاني "في التطهير " ، والكتاب الثاني يبين
تأثره بالفيثاغوريين وبأراءهم الدينية ، أما الأول فيوضح تأثره ببارمنيدس ، وإن
كان تأثره بهيراقليطس أبعد أثرا من
بارمنيدس . ونظريته حول المادة كانت من البساطة والإقناع بمكان جعل الجميع يؤمنون
بالعديد من جوانبها حتى عصر النهضة .
والحق أن تبني أرسطو لها قد ساعد كثيرا على انتشارها بعد إدخال عدة تعديلات عليها
، وفي ظل الدعم الأرسطي لها بقيت هي السائدة من بين أعمال التراث اليوناني القديم
حتى القرن الثامن عشر حتى خضعت لنقد بناء على يد علماء الكيمياء من أمثال
"بويل " . وتقوم هذه النظرية على أن جميع الأشياء تتكون من أربعة عناصر
_رغم أنه لم يكن هو الذي استخدم كلمة عنصر _ هي :التراب ، الهواء ، النار ، الماء
.وليس لأيها أفضلية على الأخر ، لكنها تتحدد بكميات مختلفة بالأشياء المختلفة .
يتفق إمباذقليس مع
بارمنيدس في فكرة عدم خلق الأشياء أو فنائها ، ولكنه صاغها بطريقة أفضل منه فقال :
" إن جميع الأشياء الهالكة لا تولد ولا تفنى بالموت ، بل بخلط الأشياء
وتبديلها ، والانسان هو من أطلق اسم الميلاد ". ويعتبر هذا حلا وسطا بين بارمنيدس والمنطق
السليم ، فامباذقليس على أتم إستعداد "للالتزام بالعرف " والحديث عن
الميلاد والموت ، فمادمنا نتحدث في إطار فكرته عن أن الميلاد أو النشوء هو عملية
تكوين شيء من خلال خلط المواد الموجودة سابقا ، وما الموت أو الفناء الا يعنى
عملية تفكيك هذه المواد أو العناصر وإعادة تكيونها لتصبح شيئا أخر . لذلك فهو متفق
مع بارمنيدس الى حد ما . ويتفق معه أيضا فى أنه ليس في الوجود مفهوم الفراغ أو
الخلاء ، بيد أنه تجاهل من مذهبه إستحالة الحركة أو أن ليس هناك إلا شيئا واحدا ،
والشىء نفسه فعله مع مفارقات زينون الداعمة لهذه الامور .ولا تشير العناصر الأربعة
لدى امباذقليس من تراب وهواء ونار وماء ، الى مانعنيه اليوم بهذه الكلمات ،
فالهواء تشكلت منه جميع الغازات ، والماء تشكل منه جميع السوائل وذلك لأنه يذوب
ويتحد مع عناصر أخرى ، والحب هو الذي يصل هذه العناصر ويجمعها ببعض ، والبغضاء هي الصراع التي تفصله وينفرها عن بعضها البعض ، وتضع هذه
الحرب أوزارها في صورة العالم المتغير الذي نراه .ويرَ إمباذقليس أن الحب ساد
العالم كله في وقت من الأوقات وإجتمعت كل العناصر في شكل إلهي واحد ، لكن شوكة
الصراع بدأت تقوى وأخذت تفرق بين هذه العناصر ، بيد أنه يوما ما ، سيكتب الإنتصار
"للصراع أو البغضاء " لكن ليس للأبد ، وتعود جميع الأشياء الى سيرتها
الأولى ذرات من عناصر ، ولكن الحب سيشنُ هجوما مضادا رهيبا ويجمع العناصر كلها في
شكل أخر ضخم لتبدأ المعركة بينهما من جديد . ويشبه الأمر الى حد ما في علم
الكونيات cosmolgy المعاصر ، حديثنا عن
عملية "الإنفجار الكبير big
bang"
و " الإنسحاق الكبير big
crunch"،
فما يقوله علماء اليوم أن المادة والطاقة كانتا مضغوطتين بشكل كلي في مكان واحد ثم
انفجرتا وتبعثرتا في "إنفجار عظيم " . وإذا كان الحال كذلك فلا مناص من
عملية عكسية في المستقبل البعيد تعرف بعملية "الانسحاق الشديد "ويلتص
بعضها في بعض فى نقطة واحدة بقوة الجاذبية ،وهذه الفكرة تعادل عند إمباذقليس فكرة
إنتصار الحب .لذلك يمكننا إعتبار تفسير الكون لديه خليطا من فيزياء ستيفن هوكينج
وروايات باربرا كارتلاند الرومانسية .
قدم إمباذقليس تفسيرات
أكثر تقدما بخصوص الكائنات الحية ، فمثلا لاحظ أن الصفات المتباينة بشكل واضح
للكائنات الحية يمكن أن تكون لها الوظيفة نفسها وأن تؤدي أعمالا متشابهة، وهذا هو
أحد المباديء الأساسية في علم الأحياء .أما أكثر تفسيراته البيولوجية تفصيلا عن
البقاء هو تفسيره لعمليات التنفس عند الإنسان والحيوان ، إذ يرَ أن انتظام حركة
التنفس يترتب على انتظام حركة الدم في ثقوب صغيرة موجودة في الأنابيب حاملة الدم
في مؤخرة فتحات الأنف ، وهذه الحركة تمتص الهواء لداخل الأنف . ثم يستفيض في شرح
هذا المبدأ الميكانيكي استفاضة تنم عن حذاقة ومهارة وذكاء . ثم اقترب إمباذقليس من
لب القضية الجوهرية في علم الأحياء ، حيث قال إن جميع المخلوقات تدين بالفضل فيما
تحمله من صفات مفيدة ونافعة الى حقيقة أنه كان ثمة العديد من أنواع المخلوقات ،
وأن الكائنات الغريبة والمشوهة فشلت في البقاء لأنها لم تكن لائقة لذلك ، ولم يتبق
سوى المخلوقات التى كانت جديرة بذلك لتتكيف وتملأ العالم بالتكاثر ، بيد أن
تفسيراته لهذه العلملية انطوت على تفسيرات أقرب الأساطير منها الى التفسير العلمي
فكتب يقول : كانت في هذه المرحلة العديد من الاوجه بلا رقاب ، وكانت الأذرع تهيم
بلا أكتاف ، وكانت العيون تضرب في الارض وحيدة بحثا عن جباة ..بيد أن هذا لا يمنعه
أن اكتشف شيئا من عمل الانتخاب الطبيعي قبل أن يقدم دارون ووالاس أدلة ملموسة على نظرية التطور
ب2300عام .
انتهي ..
المصادر:
1-تاريخ الفلسفة الغربية
..برتراند راسل ..
2-حلم
العقل ..تاريخ الفلسفة من عصر اليونان الى عصر النهضة ..انتوني جوتليب .
3-أقدم
لك الفلسفة ..ديف روبنسون..
5_
تاريخ الفلسفة اليونانية ..يوسف كرم..
عماد السعيد..
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق