السبت، 16 مايو 2015

أناكسجوراس

كان أناكسجوراس (حوالي500-428ق.م) هو أول من حمل الفلسفة الطبيعانية الأيونية الى الأثينيين ، ولد في مدينة كلازوميني في أيونيا ، ثم انتقل الى مدينة أثينا حوالي عام 460 وغالبا بدعوة من بركليز ، إذ كان معنيا بتمدين أبناء المدينة فكان يجلب اليها الأدباء والعلماء ليجعل منها مركز اليونان في السياسة والثقافة على السواء ، فبدخول أناكسجوراس الى أثينا دخلت معه الفلسفة اليها للمرة الأولى . وكان سقراط في ذلك الحين لا يزال صبيا ولم يكن أفلاطون قد ولد بعد ، وقد تحمله سكان أثينا مايقرب من ثلاثين عاما ، وأطلقوا عليه اسما لا يخلوا من تهكم إذ سموه "عقل "، وسرعان من اتهموه بتهمة فرّ على أثرها  نحو المشرق ، وتمثلت جريمته المعلنة رسميا في أنه كان يعتقد بأن الأجرام السماوية ليست ألهة تستحق العبادة ، بل أحجار ملتهبة ، فما الشمس إلا صخر ملتهب ، وما القمر إلا من تراب . بيد أن هناك بعض المؤرخين يقدكشفون سببا أخر للإتهام فقالوا أن السبب الحقيقي هو لمقاضاته هو صداقته للقائد العظيم بركليز وقربه منه ، ويبدو هذا التفسير معقولا ، لأن هناك أصدقاء لبركليز أخرين قد طالتهم تلك الإتهامات .

ورد ذكر اسم أناكسجوراس في محاورة  أفلاطون  عن محاكمة سقراط بتهمة الفسق ، وذلك بعد ثلاثين عاما ، حيث توجه سقراط الى أحد مُتَّهميه وهو رجل يدعى ميليتوس ، وسأله عما إذا كان الإتهام الموجه إليه هو :" أني لا أؤمن بأن الشمس والقمر ألهة ، في حين أن معظم الناس يؤمنون بذلك " . فأكد ميليتوس كلامه قائلا :" إنه فعلا لا يؤمن بذلك أيها السادة المحلفون ، فهو يقول إن الشمس قطعة من الحجارة والقمر كتلة من التراب " فما كان م نسقراط إلا أن رد عليه بسخرية وتهكم وقال له : عزيزي ميليتوس ! هل تتخيل أنك تحاكم أناكسجوراس ؟؟ ألهذا الحد تستهين  بهؤلاء السادة حتى تظن أنهم جهلاء فلا يعرفون أن كتابات أناكسجوراس مفعمة بنظريات مثل هذه ؟؟.


كان أناكسجوراس مهتما بالفلك اهتماما بالغا ولكن بصبغة أيونية ، وقد قيل أنه تنبأ بسقوط نيزك ، وسقط فعلا على مدينة إيجوسبوتامي في تراقيا عام 467ق.م ، ورغم بعد هذه القصة عن المنطق الا أنها ربما قد تكون قد أكدت فكرة أناكسجوراس عن ماهية النجوم . وكان أناكسجوراس معارضا للخرافات بشتى أشكالها وليست الخرافات المتعلقة بالنجوم فحسب ، فقد روى بلوتارخ في كتابه "حياة بركليز " قصة إحضار رأس خروف بقرن واحد إلى بركليز وكان به نتوء في  منتصف رأسه ، فادعى أحد العرافين ويدعى لامبون  أن وجود مثل هذا الشيء الغريب على أرض بركليز يعني أن بركليز سيصبح قائد أثينا ( وهو ما حدث بالفعل ) ، بيد أن أناكسجوراس أمر بتشريح رأس الخروف ، وأوضح أن قرن الخروف الوحيد  نما على تلك الشاكلة ،لان مخ الخروف كان مشوها . وكان يعزو بلوتارخ أيضا  جُل ووقار بركليز  روح الدعابة التي يتمتع بها لتعرضه لفلسفة أناكسجوراس ، فهي سبب مهارة بركليز في الجدل والبلاغة . ومن نافلة القول أن نقول هنا أنه رغم عظمة ما خلفته رؤية  أناكسجوراس  للعالم وما خلفته على بركليز ، لم يكن سقراط  ليأخذها كاملة عنه ، فقد رأى أنها علمية ضيقة الأفق تهتم كثيرا بالأسباب الميكانيكية للأشياء وتهمل معناها وغرضها . ومن هنا ، من رفض سقراط لرؤية  أناكسجوراس ، كان ذلك الأمر بمثابة نقطة التحول الكبرى في تاريخ الفلسفة ، ويقال أحيانا إنه بيت القصيد الذي تحول فيه الموضوع من دراسة تأملية في الطبيعة الى دراسة معنوية جادة للإنسان ، وهذا هو ما قاله شيشرون بعد قرابة ثلاثة قرون :


"منذ قديم الازل وحتى عهد سقراط ، تناولت الفلسفة الحركات والأرقام ، وتسألت عن الأشياء من أين أتت  وهل عادت أم لا ، كما بحثت الفلسفة بشغف في حجم النجوم والمسافات التي تفصلها ومساراتها وكل المظاهر السماوية الأخرى . أما سقراط فهو أول من أتى بالفلسفة من السماء ووضعها في مياديين الإنسان ...وأكرهها على طرح أسئلة عن الحياة والأخلاقيات والخير والشر ". وفي هذا الحديث بعض الصحة  وليس كله صحيحا  ، إذ إن كثيرا من الفلاسفة قبل سقراط كالفيثاغوريين  وهيراقليطس طرحوا أسئلة حول الحياة والأخلاقيات والخير والشر ..

نشأ تفسير أناكسجوراس للطبيعة في ظل فكر بارمنيدس ، شأنه في ذلك شأن الذريين من بعده ، فكان لازما عليه أن يجد سبيلا لإعادة ترتيب العالم المتغير الذي هاجمه بارمنيدس . ولقد انطلق أناكسجوراس من النقطة نفسها التى انطلق منها إمباذقليس ، لكنه إنتهى في نقطة مخالفة تماما ، فإذا كان إمباذقليس قد ضاعف " الحقيقة الواحدة " السرمدية غير القابلة للإنهيار ، فإن أناكسجوراس كان يطمح الى  مضاعفة  ماوراء الطبيعة بطموح اكبر من ذلك ، فقال إن كل المواد خالدة وغير مخلوقة وغير قابلة للإنهيار . ويمكننا تبين هذه الفكرة عنده إذا ما نظرنا الى التساؤل الغريب الذي اعتراه : كيف للشّعر أن ينشأ من غير الشّعر ؟؟ . فهنا تتمثل فكرة أناكسجوراس الجوهرية في أن كل مادة تحتوي على كميات صغيرة من المواد الأخرى ، وتقدم هذه الفكرة حلا لمشكلة تحول الشيء الى شيء أخر ، إذ أنها تقول أن  المادة الجديدة كانت موجودة في المادة القديمة طوال الوقت . وقد ذهب أناكسجوراس الى أن كل شيء قابل للإنقسام الى مالا نهاية ، وأن أصغر أجزاء المادة لا يخلو من أثار لشتى العناصر جميعا ، وإنما تبدو الأشياء على ماهي  تبعا للعنصر الغالب عليها ..

ويختلف أناكسجوراس عن أسلافه في إعتباره العقل "ناوس" عنصرا أصيلا يدخل في تركيب الكائنات الحية كلها  ، وقد قال في ذلك : "  هناك بعض الأشياء _ويقصد بها الكائنات الحية _ لديها عقل كذلك " ، والفارق الوحيد بين الكائنات الحية وغير الحية ، هو أن الكائنات الحية تستطيع أن تحرك نفسها  بنفسها ، ومن ذلك يُفترض أن أناكسجوراس استنتج أن العقل هو الذي يمكنها من ذلك ف"لربما تتمتع النباتات بعقول بدائية تمكنها من النمو " . فالعقل هو مصدر الحركة كلها ، فهو يسبب حركة دائرية تنتشر في أرجاء الكون كله ، وتجعل اخف الأشياء تنزاح الى الحافة ن وأثقلها يهوي تجاه المركز ،  والعقل متجانس .


ومن نافلة القول قبل أن نتحدث عن صورة أناكسجوراس في العالم الاسلامي أن نقول ، أن من ضمن الأشياء التي تفكر فيها الطقس وبعض جوانب من علم الأحياء والإدراك ، بالإضافة الى الكون وعلم الفلك  . ويبدو أنه أدرك أن القمر يأتي بضوئه من الشمس ، وأن ظل الارض هو المتسبب في خسوف القمر .

صورة أناكسجوراس لدى العالم الإسلامي :

ظهر اسم أناكسجوراس لدى مؤرخي الفكر اليوناني من المسلمين برسمه كما نعرفه ، فيذكره القفطي تحت اسم "انكساغوراس " ورى أنه حكيم مشهور مذكور ، وأنه قبل أرسطو . ثم يخطيء فيقول إنه كان معاصرا لأرسطو . كذلك المبشر بن فاتك يدعوه "أنكساغوراس " ويذكره في مواضع معينة من كتابه ، ثم ينقل بعض أقواله :" قال أنكساغوراس : كما أن الموت رديء لمن الحياة له جيدة ، كذلك جيد لمن الحياة له رديئة ، فليس ينبغي ان يقال إن الموت جيد ولا رديء ، لكنه بالإضافة الي الشيء يكون جيدا أو رديئا " . وعرف في العالم الاسلامي أيضا غشارته " أن كل شيء  يكون في كل  شيء " و " أن الشيء لا يكون الا من مثله وشبيهه في الصورة ..

أما الشهرستاني فيذكر أن انكساغوراس يقول : إن أصل الأشياء جسم واحد ، موضوع الكل لا نهاية له ، ومنه يخرج جميع الأجسام والقوى الجسمانية والأنواع والأصناف "..ويذهب الشهرستاني أيضا الى أن أنكساغوراس أول من قال بالكمون والظهور ، فقد اعتبر الأشياء كلها كامنة في الجسم الأول .

وقد ذهبت مجموعة من مؤرخي الفلسف ةالاسلامية من الأقدمين أيضا من أمثال الشيرازي  في "الأسفار الأربعة " ، وفخر الدين الرازي في "المباحث الشرقية"  ، والايجي في "المواقف "   ، كلهم ذهب الى أن نظرية أنكساغوراس في الكون أثرت في نظرية الكمون عند "النّظام " المعتزلي ، فقد ذهب النّظام الى أن في الجسم أجزاء لا نهاية لها بالفعل ، وهو بعينه نظرية أنكساغوراس في الكمون . ويرى الأستاذ الدكتور أبو ريده ، أن ما ذهب اليه النّظام من أن العالم مكون من جواهر متضادة لا عدد لأجزائها يقهرها الله على ما يريد ، أشبه برأي أنكساغوراس في أن العقل هو الذي يرتب وينظم كل شيء . ويذهب أيضا "هورتن " الى أن "النّظام " انكساغورسي النزعة أكثر منه رواقي في نظريته عن الكمون ..
انتهى ..

المصادر :



1-تاريخ الفلسفة الغربية ..برتراند راسل ..

2-حلم العقل ..تاريخ الفلسفة من عصر اليونان الى عصر النهضة ..انتوني جوتليب .

3-أقدم لك الفلسفة ..ديف روبنسون..
4_قصة الفلسفة اليونانية ..زكي نجيب محمود ..

5_ تاريخ الفلسفة اليونانية ..يوسف كرم..
6_ أطلس الفلسفة ..بيتر كونزمان ،فرانز بيتر بوركارد،فرانز فيدمان ، اكسل فايس..
7_نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام ..علي سامى النشار
8_الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون ..د/عزت قرني ..

عماد السعيد..



 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق